صورة تعبيرية (المصدر: الإنترنت)

رحلتنا اليوم تعود بنا لزمن البطولات، لعهد عمر الفاروق، الخليفة القوي العادل، الذي فتح المسلمون في عهده بيت المقدس -أعادها الله للمسلمين، وطهرها من الصهاينة- كما فتح المسلمون فارس، حين كانت إحدى كبرى دولتين حكمتا العالم، وذلتا العرب قبل أن يعزهم الإسلام، وينير الله أبصارهم بدينه.

دخل الإسلام فارس، لينيرها بعد أن ظلت عصورا في ظلام الأكاسرة، يحكمونها ويتمتعون بخيراتها. يسكنون القصور، ويلبسون الذهب والحرير، وإذا بطشوا في الأرض بطشوا جبارين. فذهب ملكهم، وجمعت أموالهم، حتى وضعت أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد.

رحلتنا اليوم، تعود بنا لمعركة القادسية، فقد كانت الباب الذي دخل منه المسلمون لفارس فاتحين. وكانت هذه المعركة بقيادة الصحابي الجليل، والقائد المحنك، سعد بن أبي وقاص.

كنا جلوسا عند سعد وهو يخطط للمعركة في خيمته، ويحدد حاملي الألوية، ومن ينوبهم. وإذ برسول أمير المؤمنين عمر، يدخل علينا ويسلّم سعدا رسالة مختومة. ففتحها سعد فكان فيها: إن قدم عليك أبو محجن الثقفي فاحبسه. كان هذا أمر أمير المؤمين لسعد. ولم تمض فترة طويلة، حتى وصل أبو محجن ودخل علينا. فسلم، وطلب من سعد أن يسمح له بالمشاركة في القتال. فرفض سعد طلبه وقال: لقد أمرني عمر بحسبك، ولا أستطيع مخالفة أمر الخليفة. فرد أبو محجن وقد ارتسمت الدهشة على وجهه: لكنني جئت للجهاد، والمسلمون بحاجة لكل فرد لمواجهة أعداء الله، فهم يفوقوننا عددا وعدة! فأجاب سعد بحزم: إنه أمْر أمير المؤمنين. وأمَرَ الجند بحبسه.

وحمى وطيس المعركة، وأصاب سعدا وجع في بطنه، فلم يستطع أن يشارك، فأخذ يرقب المعركة من بعيد. واشتد هجوم الفرس على المسلمين. ثم رأى فارسا ينظم لجيش المسلمين، ويتقدم نحو الفرس، فبدأت الرؤوس تتطاير من حد سيفه. فتشجع المسلمون، وأقدموا على الموت، يرجون جنة عرضها السماوات والأرض. فقال سعد متعجبا: من ذلك الفارس؟ لولا أن أبا محجن في السجن لظننت أن هذا الفارس هو أبو محجن. وقبل انتهاء المعركة، انسحب الفارس من حيث أتى. ثم كان النصر للمسلمين.

فأخذ سعد يسأل عن هذا البطل، حتى علم أنه أبو محجن، فسأله: كيف هربت من حبسك؟

فأجاب: عندما سمعت بشدة بأس الفرس في القتال، لم تطاوعني نفسي بالجلوس في الحبس وأخوتي ينالون الشهادة هناك في ساح الوغى، وما بيني وبينهم إلا عدة خطوات، وتحول القيود بيني وبين الانضمام إليهم. فطلبت من زوجتك سلمى أن تفك قيودي، فأبت، فعاهدتها أن أعود لحالي في السجن إن سلمني الله، أما إن استشهدت فلا تبعة علي. فوافقت وأعطتني فرسك. فرأيت ما كان.

يا لهذه الهمة، ويا لهذه الشجاعة. لقد كان آمنا في سجنه، بعيدا عن أسنة الرماح وحد السيوف، لكنه أبى إلا أن يقاتل جنبا لجنب مع أخوته، فإن نالهم خير كان معهم، وإن أصابهم مكروه كان منهم. بهذه الهمم ساد هذا الدين، وسقطت مملكتا فارس وهرقل. بهذه الروح امتد الإسلام من حدود الصين للمحيط الأطلسي. ساد برجال شروا الدنيا بالآخرة. فسطروا بدمائهم أروع البطولات.

بعد أن سمعنا قصته، سأله سعد: ولم أمر الخليفة بحبسك؟ فقال: كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني فينفثه أحيانا، فحبسني لأني قلت:

إذا مـت فـادفني إلـى جـنب كرمـة * * * تـروي عظـامي بعـد مـوتي عروقها
ولا تــدفنني فــي الفــلاة فـإنني * * * أخــاف إذا مـا مـت أن لا أذوقـهـا

فقال له سعد: اذهب فلست مؤاخذك بشيء حتى تفعله، فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا.

هجر فارسنا الخمرة فلم يعد يشربها. توفي غازيا في نواحي أذربيجان. ضاربا مثلا يستحق أن يكتب بماء الذهب في شجاعته، وشدة بأسه في القتال. وفي وفاءه بعهده لامرأة. فبعد أن نال حريته، عاد وقيد نفسه، موفيا بعهد قطعه لسلمى زوجة سعد.

انتهت رحلتنا لهذا اليوم، وإلى أن نلقاكم في رحلات أخرى، أستودعكم الله.

نشرت لأول مرة في الفترة بين العام 1999م والعام 2002م .