لا زلنا ننهل من سير رجال عظماء، شروا الدنيا بالآخرة، حين آمنوا بالنبي الأمي الذي بعث بمكة، وآزروه وناصروه وهاجروا معه إلى المدينة، حيث استقبلهم إخوان لهم في الدين أجمل استقبال، ورحبوا بهم كأعظم ما يكون الترحيب، فشاركوهم بأموالهم، ودورهم، وتجارتهم.
نعود اليوم إلى المدينة، لنرى ونقرأ بعين العبرة، قصة أحد هؤلاء النبلاء، الذين لم تتغير طباعهم بتغير مناصبهم. ولم تشغلهم الدنيا عن فعل الخير، بل لم تعمِ أعينهم السلطة، ولا ما بأيديهم من قوة.
فبطل قصتنا يخرج كل صباح بعد صلاة الفجر، ويمشي حتى يصل إلى أطراف المدينة، فيدخل بيتا هناك، ولا يخرج إلا بعد ساعات، فيجلس للناس ليقوم بالأمانة التي تحملها، ويؤدي دوره على أكمل وجه، فقد كان أول خليفة للمسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أثار فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه شيئا في نفس عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. فقرر أن يتبعه، ويعرف خبر هذا البيت. وبعد أن فرغ الصديق من صلاته، وانطلق في طريقه، تبعه صاحبه ليعلم خبره. فدخل الصديق الدار، وما أن خرج منها حتى دخلها الفاروق.
وتفاجأ عمر عندما رأى دارا بسيطة نظيفة، وعجوزا ضريرة تجلس فيها وحيدة، طعامها جاهز أمامها. فسألها عن خبر الرجل الذي كان عندها فقالت: لا أعلم يا بني فهذا الرجل يأتي كل صباح وينظف البيت ويكنسه ثم يعدّ لي الطعام وينصرف. فجثم عمر على ركبتيه وأجهشته عيناه بالدموع وهو يقول: “لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر”.
نعم لقد أتعبهم. فكيف يقوى على هذا وهو الخليفة الذي يدير دولة تحيط بها المخاطر من كل ناحية! من أين له الوقت الكافي لمثل هذا العمل، وهو الرجل الذي يجلس للقضاء، ويأمر بالعدل، وينظم مصارف الزكاة! كيف فكر بهذا، وحروب الردة وأمر جيوش الشام والعراق تشغل باله! نعم لقد أتعبهم باهتمامه حتى بالصغائر من شؤون المسلمين من رعيّته.
لقد كان هذا أمر الخليفة الراشد الأول، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلى ذلك سار خلفه، عمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين. وهذا ما نتمنى أن نراه فيمن يتولى أمر المسلمين اليوم، اقتداء بحديث رسولنا الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، حين قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة“.
انتهت رحلتنا لهذا اليوم، وإلى أن نلقاكم في رحلات أخرى، أستودعكم الله.
نشرت لأول مرة في الفترة بين العام 1999م والعام 2002م .