رحلتنا اليوم لبيت من طين، تعيش فيه امرأة مع زوجها حياة فقر قاسية، بعد أن كانا يتقلبان في النعيم، في قصر يضاهي قصور الملوك في حجمه وفخامته. لم تتغير حياة هذه المرأة من مصيبة أودت مالهم، وعصابة سلبتهم إياه. وإنما تنازل زوجها عن كل ما يملك، وأعاده لبيت مال المسلمين، طلبا لرضى الله، وسعيا لنيل جنته.
اجتمع لهذه المرأة ما لم يجتمع لامرأة غيرها في التاريخ، فهي ابنة ملك، وزوجة ملك، وأخت لأربعة ملوك. عاصرت خلفاء ستة حكموا من بلاد الأفغان إلى المحيط الأطلسي، فكانوا سادة الدنيا في عصرهم، وهي إحدى نسائهم المقربات.
تربت في قصر الخليفة عبد الملك بن مروان، عاشت حياة نعيم، لا يرد لها طلب. ثم خرجت من بيت أبيها لبيت زوجها الأمير عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، سليل العز والشرف، وعاشت في قصره، حياة يملأها الحب والتفاهم والسعادة.
لكن كل شيء تغير بين عشية وضحاها. ففي صباح أحد الأيام، اشتد المرض بأخيها سليمان بن عبد الملك، وأحس الجميع بأن الموت قد شارفه، فطلب مستشاره رجاء بن حيوة الاختلاء به. ثم خرج المستشار ومعه الفجيعة والبشارة. الفجيعة بنعي أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، والبشارة بتسمية عمر بن عبد العزيز أميرا للمؤمنين، ومن بعده يزيد بن عبد الملك.
فتغيرت حياة عمر بن عبد العزيز ومعه زوجته فاطمة بنت عبد الملك منذ تلك اللحظة. تحول هذا الشاب المتمتع في الملهيات الحلال، إلى زاهد في الدنيا وما عليها، يبذلها لله تعالى ليدخله الله جنة عرضها السماوات والأرض. فدخل الخليفة الجديد بيته بعد ثلاثة أيام من توليه الخلافة، وقد أنهكه التعب والسهر على مصالح الرعية.
“وقال لها: يا فاطمة، قد نزل بي هذا الأمر، وحملت أثقل حمل، وسأسأل عن القاصي والداني من أمة محمد، ولن تدع هذه المهمة فضلة من نفسي ولا من وقتي أقوم بها بحقك علي، ولم تبق لي أرباً في النساء، وأنا لا أريد فراقك، ولا أوثر في الدنيا أحدا عليك، ولكني لا أريد ظلمك، وأخشى ألا تصبري على ما اخترته لنفسي من ألوان العيش، فإن شئت سيرتك إلى دار أبيك.
قالت: وماذا أنت صانع؟
قال: إن هذه الأموال التي تحت أيدينا وتحت أيدي إخوتك وأقربائك قد أخذت كلها من أموال المسلمين، وقد عزمت على نزعها منهم وردها إلى المسلمين، وأنا بادئ بنفسي، ولن أستبقي إلا قطعة أرض لي، اشتريتها من كسبي، وسأعيش منها وحدها، فإن كنت لا تصبرين على الضيق بعد السعة، فالحقي بدار أبيك!
قالت: وما الذي حملك على هذا؟
قال: يا فاطمة، إن لي نفساً تواقة، ما نالت شيئا إلا اشتهت ما هو خير منه، اشتهيت الإمارة فلما نلتها اشتهيت الخلافة، فلما نلتها اشتهيت ما هو خير منها، وهو الجنة!
قالت: اصنع ما تراه، فأنا معك، وما كنت لأصاحبك في النعيم، وأدعك في الضيق، وأنا راضية بما ترضى به.” (من كتاب قصص من التاريخ، للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله).
يا لنفسيهما الكبيرتين، اللتان فضلتا العيش بضيق الدنيا لنيل سعة الآخرة. فاطمة سليلة الخلفاء ترضى بحياة الفقر، لأن زوجها رضي بها، ورآها الطريق للجنة. يا ترى، كم امرأة سترضى العيش مع زوجها إن قرر التخلي عن كل ما يملك. كم امرأة سترضى العيش في الفقر بعد الغنى، في الضيق بعد السعة. تقوم بنفسها بعجن الطحين، وخبز الخبز، ويقوم زوجها بوضع الطين في ثقوب الحائط، بعد أن كان الخدم يقومون بكل أمور البيت. كم امرأة سترضى أن تستبدل قصرها، بدار من طين متوارية خلف المسجد لا تملأ عين الناظرين.
إلا أن هذه المرأة، رأت أن وقوفها مع زوجها سيقويه وسيشد من أزره، فآثرت أن تبقى معه على أن تعود لقصر أبيها. إنه اختبار كبير لصبر هذه المرأة، وقد نجحت في الاختبار. لم يبق لها من أيام النعيم إلا بعض الجواهر، فرآها مرة عمر، فقال لها إن هذه الجواهر قد أخذت من بيت مال المسلمين ويجب أن ترد، فردتهم. وبعد أن تولى أخوها يزيد الخلافة رد عليها حليها، فقالت ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا. فأخذ الجواهر وقسمها على نسائه.
إنها امرأة تضرب أجمل الأمثلة في طاعة الزوج، وإعانته على طاعة ربه. فيا ليت نساء اليوم يتخذونها قدوة. ويا ليت الرجال أيضا يقتدون بها، فيعاونون أزواجهم إن أردن الاقتراب إلى الله. هذه كانت حياة فاطمة بنت عبد الملك لمن أراد أن يعرف حياتها.
وإلى أن ألقاكم في رحلة أخرى أستودعكم الله.
نشرت لأول مرة في الفترة بين العام 1999م والعام 2002م .