رحلتنا اليوم لدمشق، حين كانت عاصمة الخلافة الأموية، التي سادت مشارق الأرض ومغاربها، سادت ثلث المعمورة حين ذاك. رحلتنا اليوم تعود بنا إلى سنة 99 هجرية. إذ ساد العدل، وزال الفقر، حتى صار الرجل يبحث عن من يأخذ زكاة أمواله فلا يجد أحدا.
في هذه السنة تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. خليفة سار على نهج الصحابة الكرام، حتى سمعت الأرض بعدله. خليفة سُمّي بخامس الخلفاء الراشدين لتشبهه بهم. خليفة تواضع لله فرفعه، وأسكن في القلوب حبه.
في منزل صغير من طين، لا يختلف عن دار أيٍ من فقراء المسلمين، كان يسكن هذا الخليفة العظيم. عاش حياة عز وترف قبل الخلافة، فما أن وصلت الخلافة إليه، حتى تاقت نفسه لما هو أعلى وأسمى من الخلافة. تاقت نفسه للجنة، فزهد في الدنيا وما فيها لينال رضى ربه، فيدخله جنته.
وبينما نحن جلوس في مجلسه، إذ دخل علينا قوم يظهر عليهم أثر السفر. أما ثيابهم فتدل على أنهم من أهل خراسان أو ما حولها من البلاد. فسألوا عن أمير المؤمنين عمر. فأشار من في المجلس عليه. فاستأذنوه بالحديث. فأذن لهم.
قال كبيرهم، نحن وفد جئناك من سمرقند، نشكو إليك ظلم قتيبة بن مسلم لنا. فسألهم عمر على الفور: وما هي مظلمتكم؟
عاد كبيرهم للكلام فقال: إنا علمنا أنكم أيها المسلمون، تنذرون عدوكم قبل مهاجمته، وتخيرونه إحدى ثلاث، إما الإسلام، أو الجزية، أو الحرب. لكن قتيبة هاجمنا على غفلة منا، وهذا ظلم.
فكتب عمر إلى سليمان بن أبي السري، وكان قد ولاه قتيبة على سمرقند، يقول له: إن أهل سمرقند شكوا ظلما وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإن أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي لينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج العرب من معسكرهم كما كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة.
ما أن وصل كتاب عمر لسليمان حتى طلب من القاضي جُمَيْع بن حاضر بأن يقضي في المظلمة. فقضى أن يخرج العرب من سمرقند إلى معسكرهم وأن يخيروا أهل سمرقند بين الإسلام، أو الجزية، أو الحرب، فيكون صلحا جديدا، أو ظفرا عنوة.
الله أكبر. هذا هو عدل الإسلام. لا يظلم مسلما أو كافر. وجاء الإسلام رحمة للشعوب لا ظالما لهم. لم يجد أهل سمرقند أمام سماحة الإسلام وعدله سوى أن يطلبوا من المسلمين البقاء. وكفا الله المؤمنين شر القتال. فسبحان مشرّع هذا الدين. هذه مدينة، تطلب من المسلمين الخروج منها، وما أن ينظر في شكواهم بعدل، حتى يعدلوا عن رأيهم ويطلبوا من المسلمين البقاء فيها.
هذه نتيجة العدل، دخول الناس في الإسلام أفواجا، وقلوب يملأها الحب بالإسلام. فيا من يريدون نشر شرع الله، عليكم بالتزام أوامر الله، وستجدون الناس مقبلين على الإسلام لا مدبرين عنه.
وإلى أن ألقاكم في رحلة أخرى، أستودعكم الله.
نشرت لأول مرة في الفترة بين العام 1999م والعام 2002م ، وأصل القصة من كتاب قصص من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.