في ليلة مقمرة على شاطئ البحر في أندلسنا المفقود.. ووسط سكون لا يقطعه سوى صوت موجة تتكسر لتداعب قدمي العاريتين جالبة معها بعض الرمل لتغوص أصابعي به.. شعرت به خيالا يماشيني.. ويداعب الموج قدميه..مثلي.. وغشاني خوف جميل.. ما أرغبه.. وأخافه..

التفت إلى بوجهه ذي الدماء العربية التي يسكنني عشقها وقد أثرت فيها شمس الأندلس فجاءت برونزية السكب.. بحدة أعين بدوي لفحته شمس صحرائنا العربية.. والتقت الأعين.. وخفق فؤادينا.. ولكن هيبة الموقف عقدت اللسان..

وبحكم رجولته كان هو الأجرأ.. فسألني : هل أنت (ولادة بنت المستكفي)؟

حسنا.. إذا هو مجنون!! فأين نحن من عصر عاشته وألهبته ولادة بقصص غرامها مع ابن زيدون!!؟؟

ويبدو أنه قرأ الحيرة والوجل على قسمات وجهي في ضوء القمر.. فأردف: قصدي هل أنت من حفيداتها؟؟

وبكل الوجل أجبته: ما جئت لهذه الأرض إلا ودماء عربية تتدفق داخلي فتشدني إليكم .. أرضكم فردوس أنزلنا الله إياه .. ومجد أضعناه فعاد حلما يحلو لنا التغني به .. شأن كل أمجادنا التي فرطنا بها .. فأصبحت ماض نفخر بذكره حين نقول ( كنا ) .. ومن سماجتنا لازلنا نردد:

ليس الفتى من يقول كان أبي  * * * إن الفتى من يقول ها أنذا

وضعف الفتى .. وظل الأب ذكرى تثير الخيلاء الكاذبة في نفوسنا ..

رد باستغراب: إليكم؟؟ من نحن يا سيدتي؟؟ ما أنت إلا أنا.. وان كنت حفيدة لولادة.. فأنا حفيد ابن زيدون.. ولكن اصدقيني القول.. من أنت؟؟ ما اسمك؟؟

أردفت بكل الوجل: اسمي (عذب الكلام )

هل تسمحين لي أن أجعلك الليلة لي (ولادة).. فأطربك غزلا؟؟

ما مثلي من يرفض العرض بمثل هذه الليلة الشاعرية.. خاصة وأن ما بيننا كلام × كلام.. بعيدا عن الابتذال

وانصاع لطلبي بعد أن اختلط صوته بالعنفوان العربي.. وانشأ ينشد:

ع : عليـك منـا سـلام الله مـا بقيـت  * * * صبابـة بـك نخفيهـا، فتخفـيـنـا
ذ : ذاك الزمـان الذي مـا زال يضحكنـا  * * * أنسـاً بقربكـم قد عاد يبـكـيـنـا
ب : بنتـم وبنـا فمـا ابتلـت جوانحنـا  * * * شـوقاً إليـكم، ولا جـفـت مآقينـا
ا : إنا قرأنـا الأسى يـوم الأسى صـوراً  * * * مكتوبـة، وأخذنـا الصـبـر تلقينـا
ل : لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت  * * * عنه النهى ، وتركنا الصبـر ناسينـا
ك : كنا نرى اليأس تسـلـيـنا عوارضه  * * * وقـد يئسنـا فمـا لليـأس يغرينـا
ل : لا تحسـبـوا نـأيكم عنـا يغيـرنـا  * * * أن طالمـا غيـر النـأي المحبينـا
ا : أبكـي وفـاء ، وإن لـم تبذلي صلـة  * * * فالطيـف يقنعنـا، والذكـر يكفينـا
م : ما حقنا أن تقـروا عيـن ذي حسـد  * * * بنـا، ولا أن تسـروا كاشحـاً فينـا

وما أن انتهى حتى علق ناظره بما كان في يدي.. (بقية من عود أراك كنت أستاك بها).. وتساءلت نظراتي الحيرى عن سبب شرود نظراته.. فأنشد قائلا :

اهـدي إلي بقية المسـواك  * * * لا تظهري بخلا بعود أراك
فلعل نفسي أن ينفس ساعة  * * * عنها، بتقبيل المقبل فـاك

وهنا حمدت الله أن ظهر الرقيب و بدأ يبزغ نور النهار لأجد لي عذرا للانسحاب.. و كنت أعلم أنها ليله من ليالي شهريار

و أحذر من لحظات الرقيب  * * * و قد يستدام الهوى بالحذر

واستوقفني مترددا و قال: هلا عدتني؟

قلت له: إنما العيادة للمريض!! ولك الزيارة.. والزيارة إنما تكون للخل، و ما أنت بخل لي !!..

فأشاح بوجهه عني.. واخذ يلملم كلامي القاسي و يردد:

لو شئت ما عذبتي مهجه عاشق  * * * مستعذب في حـبـك التعذيبا
ولزرته ، بل عدته.. إن الهـوى  * * * مرض يكون له الوصال طبيبا

___________________________

الأبيات لابن زيدون.