مقالة
0
أقسام رئيسية
0
أقسام فرعية
0

منصور محمد المهيري

24 أغسطس 2001

الفصل الأول :

نبذة عن العصر الأموي

بعد أن أظهر الله هذا الدين وتنفست الدنيا الصعداء على يد سيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، تكونت أول نواة لدولة الإسلام في طيبة المدينة المنورة ثم جاء وعد الله وفتحت مكة وأزهق الله المشركين بكفرهم وتحطمت الأصنام حول الكعبة المشرفة ، بدأ عصر جديد عصر الدولة الإسلامية فانتشر هذا الدين شرقا و غربا ثم جاء عصر الخلافة الراشدة الذي أرسى دعائم الدولة وسير المجتمع الإسلامي على أروع صورة ذكرها التاريخ ثم رست سفينة هذا العصر ليبدأ عصر هو عصر الدولة الأموية والت منها خرج هذا الرجل الفذ ، عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

(( لم يكن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ( 61 – 101هـ / 681 – 720 م ) رجلا مغمورا في أسرته بني أمية ، وإنما كان علما مشهورا بالصلاح والاستقامة ، والمرونة الفصاحة ، فهو قرشي أصيل ينتمي إلى بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الجد الخامـس للـرسـول صلى الله عليه وسلم، وزعيم قريش الذي أسس مجدها وكان أمية يعادل في الشرف و الرفعة عمه هاشم بن عبد مناف ، وكانا يتنافسان رئاسة قريش في الجاهلية ))

وهنا نتصفح أوراق التاريخ لنسقط الضوء على أهم الأحداث التي جرت في عصر الخلافة الأموية والأوضاع التي آلة إليها دولة الإسلام من تمزق وشقاق وانتشار لظلم وفساد يحتاج لمن يقف أمامه وقفة المخلص الحازم ليوقف هذا التيار المدمر الناخر في جسد الأمة.

(( لكن نمط الحكم الأموي يختلف جذريا عن سيرة الخلفاء الراشدين في أمر أساسي ألا وهو جعل الحكم ملكا وراثيا ، بعد أن كان شورياً ، فصار الخليفة يوصي بالخلافة لمن شاء بعده على أن يبايعه المسلمون ، ويوافقوا على تعيينه موافقة صورية فقط ، بعد أن كانت البيعة و الاختيار هي طابع تعيين الخليفة ، على أساس الشورى و التعرف على آراء الناس ، مما حرم الأمة فرصة حرية التغيير و التبديل ، كما حرمها إمكان الإصلاح في ميادين الثروة الاقتصادية ، فانتشرت المظالم التي أدت إلى كراهية الحكم الأموي ، وإلى ظهور الثورات و الانتفاضات ضد الخلفاء الأمويين ، وكان الفقهاء في المدينة وغيرها في طليعة المعارضين أشد المعارضة للأمويين ، ووجهوا لهم سهام النقد الشديد ، بل لم يبايعوهم أحيانا ، لجعلهم الأمر ملكا ، ولإهمالهم التمسك بسنة السلف ))

ولا شك أن ذلك سيكون له مردود سيئ للأمة ولبني أمية الذين حملوا أمانة و مسؤولية حكم الرعية و السير بها إلى بر السلامة و الأمان بدلاً من السير بالأمة إلى فوهة عميقة لا يجد داخلها لا الأمان ولا الاطمئنان.

وأصبحت البلاد مرتعاً للفساد ، ومباءة للانقسام و التمزق و التفرق ، في عهد يزيد بن معاوية (60 – 64  هـ ) في فاجعة كربلاء ، وقتل الحسين و أقاربه إلا نفراً قليلاً رضي الله عنهم، وفي وقعة الحرة سنة 63 هـ بالمدينة التي ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء الصحابة وزعماء المدينة ، مما أدى لظهور الشيعة بالكوفة ، فجمعوا السلاح ، ودعوا الناس للأخذ بثأر الحسين ، فصارت العراق مسرحاً للثورات و الفتن بين الخوارج والشيعة .

وحدث انقسام في الخلافة ، فبايعت الحجاز ثم العراق عبد الله بن الزبير، حتى قتل سنة 73 هـ ، وشاعت ظاهرة البذخ و الترف و الفساد و مجالس اللهو و الغناء في بلاط بعض الحكام ، و انغمس الناس في حياة الرفاهية و الإنفاق ، وأصبح الميل للمال في عهد الأمويين و بين جماعتهم هو التقليد السائد ، وجمع الولاة المال من الناس بالحق و بالباطل .

وكانت البلاد قبيل توليه عبد الملك بن مروان رضي الله عنه ( 65 – 86 هـ ) تغلي كالمراجل بالفوضى و الاضطراب ، ففي الحجاز عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقد بايعه أهلها ، وفي العراق ثورة الخوارج والشيعة ، وفي الشام عمرو بن سعيد بن العاص يطالب بالخلافة ، والبلاد الإسلامية مهددة من الشمال بخطر البيزنطيين ، ومن المغرب بثورة البربر، فقضى عبد الملك على الفتن و أسكتها ، وقمع ثورة الخوارج ، فلما ولي الوليد رضي الله عنه الخلافة وجد البلاد هادئة مطمئنة .

وتوسعت البلاد كثيرا في عهد الوليد بفتح الأندلس سنة 92 هـ بقيادة موسى بن نصير و مولاه طارق بن زياد، وأنتشر الإسلام في بلاد المغرب .

وحاول سليمان رضي الله عنه فتح القسطنطينية ، لولا إحراق الروم سفن المسلمين و فشل الحملة البحرية ، وأصبحت حدود الدولة الإسلامية من نهر السند و الصين شرقا إلى المحيط الأطلسي وجبال البرينية غربا ، ومن البحر العربي و الصحراء الأفريقية الكبرى جنوباً إلى جبال طوروس شمالا .

ورغم هذه الأحداث الأليمة منها والسعيدة التي مرة بها الأمة إلا أن العصر الأموي يعد بحق من العصور الزاهرة ذات الفضل الجزيل على الأمة ويظهر ذلك جليا في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذي غير مجرى التاريخ بما هباه الله من خصائص و مميزات تؤهله لهذه المهمة السامية فأعاد الأمة من جديد إلى حظيرة الإسلام.

مغير مجرى التاريخ

إن في أعماق التاريخ أمثلة نادرة ذات أثر بالغ في الحياة ، لا يطويها الزمان ، ولا ينساها إنسان ، وإن تخليد سيرة الرجالات العظام المشتملة على المقدرة و التفوق، والخبرة و الكفاءة المتميزة ، والنزاهة و الاستقامة ، والتأثير في جوانب الحياة المتعددة واجب كل مخلص منصف غيور.

ومن أروع هذه الأمثلة سيرة أبي حفص عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذي أجمعت القلوب على محبته ، والنفوس على صفائه و عدله و استقامته ، وصلاحه و إصلاحه أمور الناس ، وسطر له التاريخ الإسلامي بأحرف من نور سيرة تفوح بالأريج المعطار في كل نواحي الحياة الخاصة و العامة ، فكان بحق كما أجمع المؤرخون خامس الخلفاء الراشدين ، و إمام الصالحين العادلين …

ذاعت أخباره ! وخلدت غرة التاريخ اسمه، وأترعت الكتب بحكاياته العجيبة ، وقصصه النادرة ؛ لأنه حول مجرى الحياة و التاريخ ، وأحدث انقلاباً في مفاهيم الناس و تصوراتهم و سلوكهم ، وصحح أخطاءهم في ضوء الإسلام و هديه بالدعوة السامية إلى الله تعالى ودينه ، وبالأخلاق الإسلامية ، و بالسياسة و الحكم السديد و إصلاح ميزان الاقتصاد وشؤون الإدارة و المال ، فجعل طريق الحكم على النمط الراشدي بالشورى و نشر العدل والتزام المساواة ، وأصلح شؤون المال و الأرضيين على وفق المنهج الإسلامي .

الفصل الثاني

نسبه – رضي الله عنه

للنسب و السلالة الأصيلة تأثير كبير في تكوين الرجال ، وأصالة النسب تنتج آثارها الناضجة الطيبة إذا استقامت على أمر الإسلام ونهجه ، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه جد عمر بن عبد العزيز لأمه رضي الله عنهم ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي زوج ابنه عاصما من الفتاة الهلالية التي أبت غش اللبن في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد ورث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن جده ابن الخطاب كثيراً من شمائله من إيثار الحق ومناصرة العدل ، والعفة و الورع و التقوى والجرأة في الحق .

وأبوه هو عبد العزيز بن مروان رضي الله عنه والي مصر المتوفى في جمادى الأولى سنة 86 هـ و عمه الخليفة عبد الملك بن مروان رضي الله عنه أحد كبار فقهاء المدينة المتوفى في شوال سنة 86 هـ ، وجده من أبيه مروان بن الحكم رضي الله عنه (64 – 65 هـ ) شيخ بني أمية وقريب عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

وعمر بن عبد العزيز من أبناء عمومة الصحابي الجليل كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (41 – 60  هـ ) مؤسس الدولة الأموية و جدته أم أمه فتاة من بني هلال التي أبت غش اللبن في عهد عمر بن الخطاب ؛ لأن الله يراها ، وهي زوجة عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ، وابنتها أم عاصم زوجة عبد العزيز بن مروان و أم عمر بن عبد العزيز هي أم عاصم رضي الله عنهم .

فعمر بن عبد العزيز قبل استخلافه أمير و ابن أمير ، ومن سلالة الأتقياء الطاهرين ، فصار الدم الطاهر الكريم و الجوهر النقي الأصل الطيب متمثلاً كله في عمر .

وترجمته رضي الله عنه هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو حفص القرشي الأموي أمير المؤمنين .

مولده – رضي الله عنه  –

رأى رجل في المنام ليلة ولد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أو ليلة ولي الخلافة أن مناديا بين السماء و الأرض ينادي : أتاكم اللين والدين و إظهار العمل الصالح في المصلين فنزل فكتب في الأرض ع.م.ر

ولد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه 63  هـ ، وهي السنة التي ماتت فيها ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم . ويقال : كان مولده في سنة 61 هـ ، وهي السنة التي قتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنه بمصر ، وقيل سنة 63 هـ وقيل سنة 59 هـ ، فالله أعلم.

ولد عمر بحلوان ، قرية في مصر ، و أبوه عبد العزيز بن مروان أمير عليها ، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، وكان بوجه عمر شجه ، ضربته دابة في جبهته – وهو غلام – فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول : إن كنت أشج بني أمية إنك لسعيد ، أخرجه بن عساكر .وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلا ، فصدق ظن أبيه فيه ، فكان هو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه .

تربيته – رضي الله عنه –

منذ نعومة أظفار عمر حرص والده عبد العزيز رضي الله عنه على أن ينشأ ولده على الصلاح والاستقامة فأختار له البيئة الخصبة التي سيترعرع فيها فكانت هي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يعيش بعض من بقي من الصحابة رضي الله عنهم.

عندما أراد عبد العزيز بن الحكم إخراج ابنه عمر رضي الله عنه معه إلى مصر من الشام وهو حديث السن طلب عمر منه أن يرسله إلى المدينة رغبة في العلم والأدب ، فأرسله أبوه إلى المدينة ومعه الخدام ، فقعد مع مشايخ قريش و فقهائها فتأدب بآدابهم ، وتجنب شبابهم ومازال ذلك دأبه حتى أشتهر ذكره وذاع صيته .

كان عمر تابعياً جليلاً حيث قال فيه أحمد بن حنبل رضي الله عنه : ( لا أدرى قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز ).

بكى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو غلام صغير فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وسألته عن ما يبكيه فقال ذكرت الموت ، فبكت أمه ، هذه هي بوادر التقوى والخوف من الله عند عمر ، ثم إن عمر قد جمع القرآن الكريم وهو صغير ، وكان صالح بن كيسان رضي الله عنه يؤدبه حيث قال عنه : ما خبرت أحدا الله أعظم في صدر من هذا الغلام وحدث أن عمر قد تأخر عن صلاة الجماعة يوماً ، فقال له صالح بن كيسان : ما شغلك ؟ فقال : كانت مرجلتي تسكن شعري ، فقال له : قدمت ذلك على الصلاة ؟ فكتب إلى أبيه وهو والي على مصر يعلمه بذلك ، فبعث أبوه إليه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه.

وكان قبل الخلافة على قدم الصلاح أيضا ، إلا أنه كان يبالغ في التنعم ، فكان الذين يعيبونه من حساده لا يعيبونه إلا في الإفراط في التنعم والاختيال في المشية.

ولكن هذا تغير عند توليه ولاية المدينة ثم ظهر ذلك جليا عند توليه أمانة الخلافة على بلاد المسلمين .

زواجه

مات والد عمر بن عبد العزيز فأخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وجعله كمنزلة أبنائه حتى زوجه بابنته فاطمة التي قال فيها الشاعر :

بنت الخليفة والخليفة جدها
أخت الخلائف والخليفة زوجها

حيث لا يعرف امرأةٌ بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها ، ولفاطمة ابنة عبد الملك مواقف رائعة مع زوجها عمر بن عبد العزيز فهي مثال للمرأة المسلمة والزوجة الصالحة وقدوة مضيئة لمن أراد أن يقتدي بسيدة فاضلة.

الفصل الثالث

توليه إمرة المدينة المنورة

توفي عم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عبد الملك بن مروان رضي الله عنه فحزن عمر حزنا شديداً عليه لأنه كان له بمنزلة الأب و اليد الحانية التي غمرته بالمحبة و السرور ، فتولى الوليد بن عبد الملك رضي الله عنه الخلافة و كانت دار الخلافة آن ذاك بدمشق ، فعامل الوليد عمر بن عبد العزيز بما كان أبوه يعامله به وولاه إمرة المدينة و مكة و الطائف من سنة 86 هـ إلى سنة 93  هـ ، فأقام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه للناس الحج سنة 89 هـ و 90 هـ ، وفي فترة ولايته بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه بأمر من الوليد ، فدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة ، كان إذا وقع أمر مشكل جمع فقهاء المدينة ، وقد عين عشرةً منهم رضي الله عنهم ، ولا يقطع أمراً بدونهم ، وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب رضي الله عنه ، وقد كان سعيد لا يأتي أحداً من الخلفاء ، وكان يأتي على عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة ، وقد قال الصحابي الجليل خادم صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك رضي الله عنه: ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى – يعني عمر بن عبد العزيز – قالوا : كان يتم السجود ويخفف القيام و القعود.

وقد أثنى عليه من عاصره في المدينة من علماء و تابعين و فقهاء و غيرهم لما لمسو في عمر من إخلاص وتفاني لخدمة دين الله وحمل لأمانة الولاية على أتم وجه .

قال أحد الناس : رأيته في المدينة وهو أحسن الناس لباساً ومن أطيب الناس ريحاً ومن أخيل الناس مشيته ، ثم رأيته بعد ذلك يمشي مشية الرهبان.

وقال الإمام مالك رضي الله عنه : لما عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة – يعني سنة 93 هـ – وخرج منها ألتفت إليها و بكى ، وقال لمولاه مزاحم : نخشى ممن نكون ممن نفت المدينة – يعني أن المدينة تنفث خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد – فنزل بمكان قريب منها يقال له السويداء، ثم قدم دمشق على بني عمه .

بوادر توليه أمانة الخلافة

مات الوليد بن عبد الملك سنة 96 هـ ، وبويع بالخلافة لسليمان رضي الله عنه ، وتولى عمر بن عبد العزيز بنفسه أخذ البيعة لسليمان ، فضم سليمان إليه عمر مستشاراً ينصحه ويشير عليه ، و ولاه على المدينة مرةً ثانية ، وكانت تجارب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في ولاية المدينة ، وقربه من الخلفاء ، ناصحاً أو مستشاراً ، مفيدة في مراقبة الأوضاع عن كثب ، وفي الإعداد للخلافة ، وقيامة بعد استخلافه بحركته الإصلاحية الكبرى في جميع البلاد الإسلامية .

وكان لعمر مع سليمان مواقف نصح و ارشاد و تذكير بشدة الحساب يوم القيامة و في نفس الوقت كان سليمان يقدر عمر ويحرص على ملازمته له أشد الملازمة ، إلا أن هذا التقدير لم يصل إلا حد التفكير بأن يعهد لخلافته من بعده ، وإنما كان تفكيره في توليه أحد أولاده ، لولا اقتراح رجاء بن حيوة الذي كان وزير صدق للأمويين.

خلافة عمر بن عبد العزيز

في عام 99 هـ مرض سليمان بن عبد الملك فكتب الخلافة لبعض بنيه وهو غلام صغير ، فقال له رجاء بن حيوة : ما تصنع يا أمير المؤمنين ! إنما يحفظ الخليفة في قبرة أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح ، فاستخار سليمان الله ، ثم دعا رجاء بن حيوة فقال له : ماذا ترى في داوود بن سليمان ؟ فقال : هو غائب عنك في القسطنطينية و أنت لا تدري أحي هو أو ميت ! فقال له سليمان : فمن ترى ؟ قال : رأيك يا أمير المؤمنين – وهو يريد أن ينظر من يذكر – . فقال سليمان : كيف ترى عمر بن عبد العزيز ؟ قال : أعلمه و الله خيراً فاضلاً مسلماً ، فقال سليمان : هو و الله على ذلك ، والله لئن وليته ولم أول أحدا سواه لتكونن فتنة ، فكتب :

(( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتابٌ من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز ، إني قد وليتك الخلافة من بعدي ، ومن بعده يزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا ، و اتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم )) فدخلوا على سليمان و سمعوه وبايعوه رجلاً رجلاً ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء بن حيوة.

قال رجاء : فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال : أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئاً من هذا الأمر ، فأنشدك الله وحرمتي و مودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى استعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه ! قال رجاء : لا و الله ما أنا بمخبرك حرفاً ؛ قال : فذهب عمر غضبان.

خرج رجاء بن حيوة بعد أن قبض الله سليمان ونادى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته وجمع أهل بيت سليمان في مسجد دابق فاجتمعوا ، فقال : بايعوا ، فقالوا : قد بايعنا مرة ، قال : وأخرى هذا عهد أمير المؤمنين فبايعوا ، فلما أحكم رجاء بن حيوة الأمر قال : قوموا إلى صاحبكم فقد مات ، قالوا : إنا لله و إنا إليه راجعون ، و قرأ الكتاب عليهم.

تغيرت وجوه بني مروان ، ونهض الناس إلى عمر بن عبد العزيز وهو في مؤخر المسجد، ولم تحمله رجلاه فأصعدوه على المنبر ، فسكت حيناً ، فقال رجاء بن حيوة : ألا تقوموا إلى أمير المؤمنين فتبايعوه ، فنهض القوم فبايعوه فخطب الناس خطبةً بليغة.

فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : (( أيها الناس إنه لا كتاب بعد القرآن ، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، ألا و أني لست بفارضٍ و لكني منفذ ، و لست بمبتدع ، ولكني متبع ، ولست بخير من أحدكم ، ولكني أثقلكم حملاً ، وإن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم ، ألا لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق )).

ثم نزل ، فأخذوا في جهاز سليمان فصلى عمر بن عبد العزيز عليه ودفن بدابق ، ثم أتي بمراكب الخلافة وهي تنشر في الأرض رجة فقال : ما هذا ؟ فقيل : مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها ! فقال : ما لي ولها ، نحوها عني قربوا إلى بغلتي ، فقربت إليه بغلته فركبها وانصرف مع الناس ثم مالوا به إلى دار الخلافة فأبى النزول بها قائلاً : لا أنزل إلا في منزلي ، وهكذا نجد أن مخايل الورع و الدين و التقشف و الصيانة و النزاهة ، من أول حركة بدت منه، حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة ، وهي الخيول الحسان و الجياد المعدة لها وسكن منزله رغبةً عن منزل الخلافة.

إصلاحاته – رضي الله عنه –

صارت بلاد المسلمين تحت خلافة عمر بن عبد العزيز ، ورأى عمر أن ما آل إليه هو تكليف عظيم من الله وليس بتشريف ، فباع الدنيا برضا الله وسار في الناس سيرة الراعي الصالح والخليفة العادل فبدأ بنفسه وأهل بيته فصادر ما في حوزتهم وضمه لبيت المال باعتباره مالاً للمسلمين و ولى الولايات لمن رأى فيهم الصلاح والخير و رد المظالم لأصحابها، فكان يسعد بسعادة الرعية وهذا ما وضعه نصب عينية .

قال عمر بن عبد العزيز :  إن لي نفساً تواقة ، لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام من الغلمان ، ثم تاقت نفسي إلى العلم ، إلى العربية و الشعر ، فأصبت منه حاجتي، وما كنت أريد ، ثم تاقت نفسي في السلطان ، فاستعملت على المدينة . ثم تاقت وأنا في السلطان ، إلى اللبس و العيش و الطيب ، فما علمت أن أحداً من أهل بيتي ، ولا غيرهم ، كان مثل ما كنت فيه .ثم تاقت نفي إلى الآخرة والعمل بالعدل ، فأنا أرجو ما تاقت إليه نفسي من أمر آخرتي ، فلست بالذي أهلك آخرتي بدنياهم.

قالت فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز : دخلت يوماً عليه وهو جالس في مصلاه واضعً خده على يده ودموعه تسيل على خديه ، فقلت : مالك ؟ فقال : ويحك يا فاطمة ، قد وليت من هذه الأمة ما وليت ، فتفكرت في الفقير الجائع ، والمريض الضائع ، والعاري المجهود ، و اليتيم المكسور ، والأرملة الوحيدة و المظلوم المقهور ، والغريب و الأسير ، والشيخ الكبير ، وذي العيال الكثير والمال القليل ، وأشباههم في أقطار الأرض و أطراف البلاد ، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة ، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت.

وأصلح كثيراً من الأرض الزراعية ، وحفر الآبار ، وعمر الطرق ، وأعد الخزانات لأبناء السبيل ، و أقام المساجد ولكنه لم يعتن بزخرفتها و هندستها، أما الأرض المغتصبة والتي لا سجل لها فقد أعلن عمر عودتها إلى بيت مال المسلمين . فقد تمكن بإصلاحاته التي عمل بها طول مدة خلافته أن يقضي على الفقر و الحاجة ، ولم يعد لهما وجود ، ولم يبق من يأخذ من أموال الزكاة.

وفاته و نهايتهرضي الله عنه  –

قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، لو أتيت المدينة فإن مت دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : والله لأن يعذبني الله بكل عذاب إلا النار أحب إلي من أن يعلم الله مني أني أراني لذلك الموضع أهلاً ، قيل أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه توفي بالسم ، حيث سقاه بنو أمية لأنه شدد عليهم و انتزع من أيديهم كثيراً مما اغتصبوه وكان قد أهمل التحرز فسقوه السم ، فقيل له ألا تتداوى ؟ فقال : قد علمت الساعة التي سقيت فيها ، ولو كان شفائي أن أمسح شحمت أذني أو أوتي بطيب فأرفعه إلى أنفي ما فعلت ، ولما أحتضر عمر بن عبد العزيز قال : أخرجوا عني ، فقعدوا له على الباب فسمعوه يقول : مرحباً بهذه الوجوه ليست بوجوه إنس ولا جان ، ثم قال : ( تلك الدار الآخرة ) ثم هدأ الصوت ، فدخلوا فوجدوه قد قبض ، رضي الله عنه وجاء نعيه إلى سيد التابعين الحسن البصري رضي الله عنه فقال : مات خير الناس.

ودخل أحدهم على عمر يعوده فإذا عليه قميص وسخ فقيل لفاطمة بنت عبد الملك زوج عمر بن عبد العزيز ، اغسلي قميص أمير المؤمنين ، قالت : نفعل إن شاء الله ، ثم عاد فإذا القميص على حاله فقال :  يا فاطمة ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين ؟ فإن الناس يعودونه ، فقالت : والله ما له قميصٌ غيره.

توفي عمر بن عبد العزيز بدير سمعان من أرض حمص بسوريا حالياً يوم الجمعة وله 39 سنة ، وكانت خلافته سنتين و خمسة أشهر وخمسة و أياماً ، و عندما دفن وسوي بالتراب عليه إذ سقط رق من السماء مكتوبٌ فيه : بسم الله الرحمن الرحيم: أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.

قال أحدهم : رأيت الذئاب ترعى مع الغنم في البادية في خلافة عمر بن عبد العزيز ، فقلت : سبحان الله ذئب في غنم لا يضرها ! فقال الراعي : إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس ، وقال مالك بن دينار : لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء : من هذا الصالح الذي قام على الناس خليفة ؟ عدله كف الذئاب عن شائناً.

ودخل رجل على ملك الروم فرآه حزيناً فقال : ما شأن الملك ؟فقال : وما تدري ما حدث ؟ قال : ما حدث ؟ قال : مات الرجل الصالح ، قال من ، قال : عمر بن عبد العزيز ، ثم قال ملك الروم : لأحسب أنه لو كان أحد يحيي الموتى بعد عيسى بن مريم ، لأحياهم عمر بن عبد العزيز ، ثم قال : إني لست أعجب من الراهب أن أغلق بابه ورفض الدنيا ، وترهب وتعبد ، ولكن أعجب ممن كانت الدنيا تحت قدميه فرفضها وترهب.

وهكذا كان عمر رضوان الله عليه نجيب الأمة ، ومجدد دينها ، ومصلح زمانها على رأس المائة الأول من الهجرة، كما ألمح النبي و انطبق عليه في قوله : ( إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ( وهو أيضا من التابعين وخير القرون القرن الثاني بعد النبي ومن فقهاء التابعين رحم الله عمر بن عبد العزيز و جزاه عن الإسلام والمسلمين خير جزاء أنه نعم المولى و نعم المجيب.

الخاتمة

إن عمر بن عبد العزيز أعاد الثقة للأمة بأنها تستطيع أن تعود لمنبعها الصافي متى أرادت ذلك ، فرغم الفوضى و الفساد والأخطار و الذي كانت تهدد بلاد الإسلام – وما أشبه الليلة بالبارحة – إلا أن بريق الأمل وشعاعه أقوى من كل ذلك فتى ظهر معدن الإخلاص جليا حباً لله ورسوله ولهذا الدين العظيم الذي أكرم الله به الإنسانية …

كذلك فإن سيرة عمر مثال راق من تاريخنا المجيد فتفانيه و زهده و تقواه وخوفه يزرع في النفس السكينة و يحسسنا بروعة هذا الدين و أهله …

ولا أبلغ من كلام أحمد بن حنبل حينما قال : ( إذا رأيت الرجل يحب عمر ويذكر محاسنه وينشرها فأعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله ) .

وهذه دعوة للجميع . . . لغرس شمائل هذه الشخصية و تقديمها للمجتمع بصورتها البراقة الناصعة دون ما زيف أو تضليل و تسليط الضوء على الجوانب الإنسانية منها و ذلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة و الفعالة في هذا العصر .

ونخرج من بحثنا بأن ما قام به عمر بن عبد العزيز يعود إن أخلص المرء في نيته و سار على نهج سيرته العطرة مهما تغير الزمن و تبدلت أحوال الأمة.

رحم الله عمر بن عبد العزيز وجزاه عن الإسلام كل خير و أسكنه فسيح جناته و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

المصادر والمراجع

  • ابن الأثير، الكامل في التاريخ ، مراجعة و تصحيح د. محمد يوسف الدقاق ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995م ، الطبعة الثانية.
  • ·        3ابن الجوزي ، سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد ، شرح و تعليق الاستاذ نعيم زرزور ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1984م ، الطبعة الأولى .
  • الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1994 م الطبعة العاشرة .
  • د. وهبة الزحيلي ، الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز ، دار قتيبة ، بيروت ، 1998م ، الطبعة الثالثة .
  • السيوطي ، تاريخ الخلفاء ، نقحه و علق عليه محمود رياض الحلبي ، دار المعرفة ، بيروت ، 1996م ، الطبعة الثانية .
  • الطبري ، تاريخ الأمم و الملوك ،دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1991م ، الطبعة الثالثة .
  • ابن كثير ، البداية و النهاية ، تحقيق أحمد عبد الوهاب فتيح ، دار الحديث ، القاهرة ، 1992م ، الطبعة الأولى .
  • محمود شاكر ، التاريخ الإسلامي ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1991م، الطبعة السابعة .

منصور محمد المهيري